الثلاثاء، 1 أكتوبر 2013

داء العشق ودواءه

 داء العشق ودواءه


جاء في كتاب (( الجواب الكافي ))([1]) لابن القيم رحمه اللَّه ما مختصره :
واللَّه سبحانه وتعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس([2]) ، وهم قوم لوط والنساء ، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف وما راودته وكادته به ، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفته وتقواه ، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبَّره اللَّه عليه ، فإن موافقة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع ، وكان الداعي ها هنا في غاية القوة ، ومع هذه الدواعي كلها فقد آثر مرضاة اللَّه وخوفه ، وحمله حبه لله على أن يختار السجن على الزنى فقال : ] رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [ [ يوسف : 33 ] . وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه وأن ر به تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن ، صبا إليهن بطبعه وكان من الجاهلين ، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه([3]) .
وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة .
* * *
فصــــل
والطائفة الثانية ، الذين حكى اللَّه عنهم العشق ، هم اللوطية كما قال تعالى : ] وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ @ قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ @ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ @ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ @‏ ‏قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ @ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [ [ الحجر : 67 - 72 ] ، فهذا من العشق .
فحكاه سبحانه عن طائفتين : عشق كل منهما ما حرم عليه من الصورة ، ولم يـبال بما في عشقه من الضرر .
وهذا داء أعيا الأطباء دواءه ، وعز عليهم شفاءه ، وهو واللَّه الداء العُضال والسم القتال الذي ما علق بقلب إلا وعز على الورى استـنقاذه من إساره ، ولا اشتعلت ناره في مهجة إلا وصعب على الخلق تخليصها من ناره ، وهو أقسام :
تارة يكون كفرًا ، كمن اتخذ معشوقه ندًّا ، يحبه كما يحب اللَّه ، فكيف إذا كان محبته أعظم من محبة اللَّه في قلبه ؟ فهذا عشق لا يغفره اللَّه لصاحبه ، فإنه من أعظم الشرك ، واللَّه لا يغفر أن يشرك به ، وإنما يغفر بالتوبة الماحية ما دون ذلك ، وعلامة هذا العشق الشركي الكفري ، أن يقدم العاشق رضاء معشوقه على رضاء ربه ، وإذا تعارض عنده حق معشوقه وحق ربه ، وطاعة ربه ، وطاعته قدم حق معشوقه على حق ربه وآثر رضاه على رضاه ، وبذل لمعشوقه أنفس ما يقدر عليه ، وبذل لربه - إن بذل - أردأ ما عنده ، واستفرغ وسعه في مرضاة معشوقه وطاعته والتقرب إليه وجعل لربه - إن أطاعه - الفضلة التي تفضل عن معشوقه من ساعاته .
فتأمل حال أكثر عشاق الصور ، هل تجدها إلا مطابقة لذلك ؟ ثم ضع حالهم في كفة وتوحيدهم وإيمانهم في كفة ، ثم زن وزنًا يرضي اللَّه ورسوله ويطابق العدل ، وربما صرح العاشق منهم بأن وصل معشوقه أحب إليه من توحيد ربه .
ولا ريب أن هذا العشق من أعظم الشرك ، وكثير من العشاق يصرح بأنه لم يـبق في قلبه موضع لغير معشوقه ألبتة ، بل قد ملك معشوقه عليه قلبه كله ؛ فصار عبدًا مخلصًا من كل وجه لمعشوقه ، فقد رضي هذا من عبودية الخالق  جل جلاله بعبوديته لمخلوق مثله ، فإن العبودية هي كمال الحب والخضوع ، وهذا قد استغرق قوة حبه وخضوعه وذله لمعشوقه ، فقد أعطاه حقيقة العبودية .
ولا نسبة بـين مفسدة هذا الأمر العظيم ومفسدة الفاحشة ، فإن تلك ذنب كبـير لفاعله حكم أمثاله ، ومفسدة هذا العشق مفسدة الشرك .
وكان بعض الشيوخ من العارفين يقول : لأن أبتلي بالفاحشة مع تلك الصورة أحب إليَّ من أن أبتلي فيها بعشق يتعبد لها قلبـي ويشغله عن اللَّه .
* * *
فصل : في علاج العشق
ودواء هذا الداء القتال : أن يعرف أن ما ابتلي به من هذا الداء المضاد للتوحيد إنما هو من جهله وغفلة قلبه عن اللَّه ، فعليه أن يعرف توحيد ربه من سننه وآياته أولاً ، ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بما يشغل قلبه عن دوام الفكر فيه ، ويكثر اللجأ والتضرع إلى اللَّه سبحانه في صرف ذلك عنه ، وأن يرجع بقلبه إليه ، وليس له دواء أنفع من الإخلاص لله ، وهو الدواء الذي ذكره اللَّه في كتابه حيث قال : ] كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ 
[ ([4])
 [ يوسف : 24 ] ،
فأخبر سبحانه أنه صرف عن يوسف السوء من العشق والفحشاء من الفعل بإخلاصه ، فإن القلب إذا أخلص عمله لله لم يتمكن منه عشق الصور ، فإنه إنما يتمكن من القلب الفارغ ، كما قال :
أتــاني هـواها قبـل أن أعـرف الهـوى     فصــادف قـلـبًا خـاليًا فتمكنــــــا
انتهى .
فـــوائـــــد :
قال الإمام أحمد : من دعاك إلى غير التزوج فقد دعاك إلى غير الإسلام .
ولقد تزوج رحمه اللَّه في اليوم الثاني من وفاة امرأته وقال : (( أكره أن أبـيت عزبًا )) .
وكان ابن مسعود يقول : لو لم يـبق من عمري إلا عشرة أيام أحبـبت أن أتزوج حتى لا ألقي اللَّه عزبًا . ومن أقواله رضي اللَّه عنه : التمسوا الغنى في النكاح ، يقول اللَّه تعالى : ] إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ [ [ النور : 32 ] وقال عمر رضي اللَّه عنه : إني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج اللَّه نسمة تسبحه وتذكره .
وأعود إلى كلام ابن القيم رحمه اللَّه :
آفات العشق :
 
الأولى : الاشتغال بذكر المخلوق وحبه عن حب الرب تعالى وذكره ، فلا يجتمع في القلب هذا وهذا إلا ويقهر أحدهما صاحبه ، ويكون السلطان والغلبة له .
 
الثانية : عذاب قلبه بمعشوقه ، فإن من أحب شيئًا غير اللَّه عُذب به ولا بد كما قيل :
 
فمـا في الأرض أشقـى مـن محــب  ... وإن وجـد الـهـوى حلـو المـذاق
تــراه بـاكيًا في كــل حيـــن ... مخافــة فرقـة أو لاشتيـــــاق
فيبكـي إن نـأوا شــوقًا إليهــم ... ويبكـي إن دنــوا خـوف الفـراق
فتسخـن عينــه عنـد الفـــراق ... وتسخـن عيـنــه عنـد التــلاق
 
والعشق وإن استلذ به صاحبه ، فهو من أعظم عذاب القلب .
 
الثالثة : أن العاشق قلبه أسير في قبضة معشوقه يسومه الهوان ، ولكنه لسكرة العشق لا يشعر بمصابه ، فقلبه كالعصفور في كف الطفل يورده حياض الردى ، والطفل يلهو ويلعب ، فيعيش العاشق عيش الأسير الموثق ، ويعيش الخلي عيش المسيـب المطلق ، والعاشق كما قيل :
 
طليـق بـرأي العيـن وهـو أسيــر
وميـت يـرى في صـورة الحي غـاديًا
أخــو غمرات ضاع فيهن قلبـــه
عليـل علـى قطـب الهـلاك يـدور
وليس لــه حـتى النشـور نشــور
فليس لـه حتى الممــــات حضـور
 
 
الرابعة : أنه يشتغل عن مصالح دينه ودنياه ، فليس شيء أضيع لمصالح الدين والدنيا من عشق الصور ، أما مصالح الدين فإنها منوطة بلم شعث القلب وإقباله على اللَّه ، وعشق الصور أعظم شيء تشعيـبًا وتشتيتًا له ، وأما مصالح الدنيا فهي تابعة في الحقيقة لمصالح الدين ، فمن انفرطت عليه مصالح دينه وضاعت عليه ، فمصالح دنياه أضيع وأضيع .
 
الخامسة : أن آفات الدنيا والآخرة أسرع إلى عشاق الصور من النار في يابس الحطب ، وسبب ذلك ، أن القلب كلما قرب من العشق وقوي اتصاله به بعد من اللَّه ، فأبعد القلوب من اللَّه قلوب عشاق الصور ، وإذا بعد القلب من اللَّه طرقته الآفات من كل ناحية ، فإن الشيطان يتولاه ، ومن تولاه عدوه واستولى عليه لم يأله وبالاً ، ولم يدع أذى يمكنه إيصاله إليه إلا أوصله ، فما الظن بقلب تمكن منه عدوه ، وأحرص الخلق على غيه وفساده وبعد منه وليه ، ومن لا سعادة له ولا فلاح ولا سرور إلا بقلبه وولايته ؟
 
السادسة : أنه إذا تمكن من القلب واستحكم وقوي سلطانه أفسد الذهن وحدث الوساوس ، وربما التحق صاحبه بالمجانين الذين فسدت عقولهم فلا ينتفعون بها ، وأخبار العشاق في ذلك موجودة في مواضعها ، بل بعضها يشاهد بالعيان ، وأشرف ما في الإنسان عقله ، وبه يتميز عن سائر الحيوانات ، فإذا عدم عقله التحق بالبهائم ، بل ربما كان حال الحيوان أصلح من حاله ، وهل أذهب عقل مجنون ليلى وأضر به إلا العشق ؟ وربما زاد جنونه على جنون غيره ، كما قيل :
 
قالـوا جننت بمن تـهـوى ، فقلت لهم
العشـق لا يستفيـق الدهــر  صاحبه
العشـق أعظم ممـا بالمجانيـــن
وإنما يصرع المجنـون بالحيـــن
 
السابعة : أنه ربما أفسد الحواس أو أنقصها ، إما إفسادًا معنويًا أو صوريًا ، أما الفساد المعنوي فهو تابع لفساد القلب ، فإن القلب إذا فسد فسدت العين والأذن واللسان ، فيرى القبـيح حسنًا منه ، ومن معشوقه كما في (( المسند )) مرفوعًا : (( حبك الشيء يعمي ويصم ))([5]) ، فهو يعمي عين القلب عن رؤية مساوئ المحبوب وعيوبه فلا ترى العين ذلك ، ويصم أذنه عن الإصغاء إلى العدل فيه ، فلا تسمع الأذن ذلك . والرغبات  تستر العيوب ، فإن الراغب في شيء لا يرى عيوبه حتى إذا زالت رغبته فيه أبصر عيوبه ، فشدة الرغبة غشاوة على العين تمنع من رؤية الشيء على ما هو عليه . والداخل في الشيء لا يرى عيوبه ، والخارج منه الذي لم يدخل فيه لا يرى عيوبه ، ولا يرى عيوبه إلا من دخل فيه ثم خرج منه ، ولهذا كان الصحابة الذين دخلوا في الإسلام بعد الكفر خيرًا من الذين ولدوا في الإسلام ، قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه : (( إنما تنقض عُرى الإسلام عروة عروة إذا ولد في الإسلام من لا يعرف الجاهلية )) .
 
وأما إفساده للحواس ظاهرًا فإنه يمرض البدن وينهكه ، وربما أدى إلى تلفه ، كما هو معروف في أخبار من قتله العشق .
 
وقد رفع إلى ابن عباس وهو بعرفة شاب قد نحل حتى عاد جلدًا على عظم ، فقال : ما شأن هذا ؟
قالوا : به العشق ، فجعل ابن عباس يتعوذ باللَّه من العشق عامة يومه .
 
الثامنة : أن العشق كما تقدم هو الإفراط في المحبة ، بحيث يستولي المعشوق على القلب من العاشق ، حتى لا يخلو من تخيله وذكره والتفكر فيه ، بحيث لا يغيـب عن خاطره وذهنه ، فعند ذلك تشتغل النفس بالخواطر النفسانية فتتعطل تلك القوى ، فيحدث بتعطيلها من الآفات على البدن والروح ما يعسر دواؤه ويتعذر ، فتتغير أفعاله وصفاته ومقاصده ، ويختل جميع ذلك فيعجز البشر عن صلاحه ، كما قيل :
الحب أول مـــا يكــون لجاجـة
حتـى إذا خــاض الفتى لجـج الهوى
يأتي بـهـا وتسوقـــه الأقــدار
جـاءت أمـــور لا تطــاق كبار
والعشق مبادئه سهلة حلوة ، وأوسطه هم وشغل قلب وسقم ، وآخره عطب وقتل إن لم تتداركه عناية من اللَّه .
والعاشق له ثلاث مقامات : مقام ابتداء ، ومقام توسط ، ومقام انتهاء .
فأما مقام ابتدائه : فالواجب عليه مدافعته بكل ما يقدر عليه إذا كان الوصول إلى معشوقه متعذرًا قدرًا وشرعًا ، فإن عجز من ذلك وأبى قلبه إلا السفر إلى محبوبه ، وهذا مقام التوسط والانتهاء  - فعليه كتمان ذلك وألا يفشيه إلى الخلق ، ولا يشمت بمحبوبه ولا يهتكه بـين الناس ، فيجمع بـين الظلم والشرك . فإن الظلم في هذا الباب من أعظم أنواع الظلم . وربما كان أعظم ضررًا على المعشوق وأهله من ظلمه في ماله ، فإنه يعرض المعشوق بهتكه في عشقه إلى وقوع الناس فيه وانقسامه إلى مصدق ومكذب ، وأكثر الناس يصدق في هذا الباب بأدنى شبهة .
 
وإذا قيل : فلان فعل بفلان أو بفلانة ، كذبه واحد ، وصدقه تسعمائة وتسعة وتسعون ، وخبر العاشق المتهتك عن غير المتهتك عند الناس في هذا الباب يفيد القطع واليقين ، بل إذا أخبرهم المفعول به عن نفسه كذبًا وافتراء على غيره جزموا بصدقه جزمًا لا يحتمل النقيض . بل لو جمعهما مكان واحد اتفاقًا ، جزموا أن ذلك عن وعد واتفاق بـينهما ، وجزمهم في هذا الباب على الظنون والتخيـيل والشبهة والأوهام والأخبار الكاذبة كجزمهم بالحسيات المشاهدة ، وبذلك وقع أهل الإفك في الطيـبة المطيـبة ، حبـيـبة رسول اللَّه (صلي الله عليه وسام) ، المبرأة من فوق سماوات ، بشبهة مجيء صفوان بن المعطل بها وحده خلف العسكر ، حتى هلك من هلك ، ولولا أن تولى اللَّه سبحانه براءتها والذب عنها وتكذيـب قاذفها لكان أمرًا آخر .
والمقصود : أن في إظهار المبتلى عشق من لا يحل له الاتصال به من ظلمه وأذاه ما هو عدوان عليه وعلى أهله([6]) ، وتعريض لتصديق كثير من الناس ظنونهم فيه ، فإن استعان عليه بمن يستميله إليه ، إما برغبة أو رهبة تعدى الظلم وانتشر ، وصار ذلك الواسطة ديوثًا ظالمًا ، وإذا كان النبـي (صلي الله عليه وسام)  قد لعن الرائش - وهو الواسطة بـين الراشي والمرتشي لإيصال الرشوة - فما الظن بالديوث الواسطة بـين العاشق والمعشوق في الوصلة المحرمة ؟ فيساعد العاشق على ظلم المعشوق  مع غيره ممن يتوقف حصول غرضهما على ظلمه في نفس أو مال أو عرض ، فإن كثيرًا ما يتوقف حصول غرضه المطلوب على قتل نفس يكون حياتها مانعة من غرضه ، وكم قتيل طل([7]) دمه بهذا السبـب من زوج وسيد وقريـب ، وكم خبـبت امرأة على بعلها وجارية وعبد على سيدهما ، وقد لعن رسول اللَّه (صلي الله عليه وسام)  من فعل ذلك وتبرأ منه ، وهو من أكبر الكبائر ، وإذا كان النبـي (صلي الله عليه وسام)  قد نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه ، وأن يسوم على سومه([8]) فكيف بمن يسعى بالتفريق بـينه وبـين امرأته وأمته حتى يتصل بهما ؟ وعشاق الصور ومساعدوهم من الديثة لا يرون ذلك ذنبًا ، فإن في طلب العاشق وصل معشوقه مشاركة الزوج والسيد ، ففي ذلك من إثم ظلم الغير ما لعله لا يقصر عن إثم الفاحشة ، إن لم يَرْبُ عليها ، ولا يسقط حق الغير بالتوبة من الفاحشة ، فإن التوبة وإن أسقطت حق اللَّه فحق العبد باق له المطالبة به يوم القيامة ، فإن من ظلم الوالد بإفساد ولده وفلذة كبده ومن هو أعز عليه من نفسه ، وظلم الزوج بإفساد حبيبته والجناية على فراشه - أعظم ممن ظلمه بأخذ ماله كله ، ولهذا يؤذيه ذلك أعظم مما يؤذيه أخذ ماله ولا يعدل ذلك عنده إلا سفك دمه ، فيا له من ظلم أعظم إثمًا من فعل الفاحشة ، فإن كان ذلك حقًّا لغاز في سبـيل اللَّه أوقف له الجاني الفاعل يوم القيامة ، وقيل له : (( خذ من حسناته ما شئت )) كما أخبر بذلك النبـي (صلي الله عليه وسام)  ثم قال (صلي الله عليه وسام)  : (( فما ظنكم ؟ ))([9]) أي :  فما تظنون يـبقي له من حسناته ؟ فإن انضاف إلى ذلك أن يكون المظلوم جارًا ، أو ذا رحم محرم ، تعدد الظلم وصار ظلمًا مؤكدًا لقطيعة الرحم وأذى الجار ، ( ولا يدخل الجنة قاطع  رحم) ([10])  ( ولا من لا يأمن جاره بؤائقه )([11]) .
 
فإن استعان العاشق على وصال معشوقه بشياطين الجن ، إما بسحر أو استخدام أو نحو ذلك ضم إلى الشرك والظلم كفر السحر ، فإن لم يفعله هو ورضي به كان راضيًا بالكفر غير كاره له لحصول مقصوده ، وهذا ليس بـبعيد من الكفر .
 
والمقصود : أن التعاون في هذا الباب تعاون على الإثم والعدوان .
وأما ما يقترن بحصول غرض العاشق من الظلم المنتشر المتعدي ضرره ، فأمر لا يخفى إذا حصل له مقصوده من المعشوق ، فللمعشوق أمور أخرى يريد من العاشق إعانته عليها فلا يجد من إعانته بدًّا ، فيـبقى كل منهما يعين الآخر على الظلم والعدوان ، فالمعشوق يُعين العاشق على ظلم من اتصل به من أهله وأقاربه وسيده وزوجه ، والعاشق يعين المعشوق على ظلم من يكون غرض المعشوق متوقفًا على ظلمه ، فكل منهما يعين الآخر على أغراضه التي يكون فيها ظلم الناس ، فيحصل العدوان والظلم للناس بسبـب اشتراكهما في القبح لتعاونهما بذلك على الظلم ، وكما جرت به العادة بـين العاشق والمعشوق ؛ من إعانة العاشق لمعشوقه على ما فيه ظلم وعدوان وبغي ، حتى ربما يسعى له في منصب لا يليق به ولا يصلح لمثله ، وفي تحصيل مال من غير حله ، وفي استطالته على غيره ، فإذا اختصم معشوقه وغيره أو تشاكيا لم يكن إلا من جانب المعشوق ظالمًا كان أو مظلومًا ، هذا إلى ما ينضم إلى ذلك من ظلم العاشق للناس بالتحايل على أخذ أموالهم ، والتوصل إلى معشوقه بسرقة أو غصب أو خيانة أو يمين كاذبة أو قطع طريق ونحو ذلك ، وربما أدى ذلك إلى قتل النفس  التي حرم اللَّه ليأخذ ماله ليتوصل به إلى معشوقه([12]) .
 
فكل هذه الآفات وأضعافها وأضعاف أضعافها تنشأ عن عشق الصور ، وربما حمله ، على الكفر الصريح ، وقد تنصر جماعة ممن نشئوا في الإسلام بسبـب العشق ، كما جرى لبعض المؤذنين حين أبصر - وهو على سطح مسجد - امرأة جميلة ، ففتن بها ونزل ودخل عليها وسألها نفسها فقالت : هي نصرانية ، فإن دخلت في ديني تزوجت بك ففعل فرقي في ذلك اليوم على درجة عندهم ، فسقط منها ، فمات ، ذكر هذا عبد الحق في كتاب (( العاقبة )) له .
 
وإذا أراد النصارى أن ينصِّروا الأسير أروه امرأة جميلة وأمروها أن تطمعه في نفسها حتى إذا تمكن حبها من قلبه بذلت له نفسها إن دخل في دينها ، فهنالك ] يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء [ [ إبراهيم : 27 ] . انتهى من (( الجواب الكافي )) .
 
 
ثانيًا :
 وجاء في (( زاد المعاد )) لابن القيم أيضًا رحمه اللَّه ما مختصره :
والمقصود([13]): أن العشق لما كان مرضًا من الأمراض ، كان قابلاً للعلاج ، وله أنواع من العلاج ، فإن كان مما للعاشق سبـيل إلى وصل محبوبه شرعًا وقدرًا ، فهو علاجه ، كما ثبت في (( الصحيحين )) من حديث ابن مسعود رضي اللَّه عنه ، قال : قال رسول اللَّه (صلي الله عليه وسام)  : (( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء )) فدل المحبَّ على علاجين : أصلي ، وبدلي . وأمره بالأصلي ، وهو العلاج الذي وضع لهذا الداء ، فلا ينبغي العدول عنه إلى غيره ما وجد إليه سبـيلاً .
 
وروى ابن ماجه في (( سننه )) عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، عن النبـي (صلي الله عليه وسام)  أنه قال : (( لم نر للمتحابـين مثل النكاح ))([14]) ، وهذا هو المعنى الذي أشار إليه سبحانه عقيـب إحلال النساء حرائرهن وإمائهن عند الحاجة بقوله : ] يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [  [ النساء  : 28 ] فذكرُ تخفيفه في هذا الموضع ، وإخباره عن ضعف الإنسان يدل على ضعفه عن احتمال هذه الشهوة ، وأنه سبحانه خفف عنه أمرها بما أباحه له من أطايـب النساء مثنى وثلاث ورباع ، وأباح له ما شاء مما ملكت يمينه ، ثم أباح له أن يتزوج بالإماء إن احتاج إلى ذلك علاجًا لهذه الشهوة ، وتخفيفًا عن هذا الخلق الضعيف ، ورحمة به .
 
 
ومن وسائل العلاج التي ذكرها رحمه اللَّه :
فليتذكر قبائح المحبوب ،  وما يدعوه إلى النفرة عنه ، فإنه إن طلبها وتأملها وجدها أضعاف محاسنه التي تدعوه إلى حبه .
فإن عجزت عنه هذه الأدوية كلها لم يـبق له إلا صدق اللجأ إلى من يجيـب المضطر إذا دعاه ، وليطرح نفسه بـين يديه على بابه ، مستغيثًا به متضرعًا ، متذللاً ، مستكينًا فمتى وفق لذلك ، فقد قرع باب التوفيق . انتهى من (( زاد المعاد )) .
 
ثالثًا : بعد هذا الكلام النفيس لابن القيم رحمه اللَّه ، يمكنني أن أقول بفضل اللَّه تعالى : تفكير ساعة في المعشوق يُبعد ميلاً عن المعبود .
 
فائدة :
شرح حديث : (( يا معشر الشباب )) الوارد في (( الصحيحين )) ، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي .
ورواية الترمذي : عن عبد اللَّه بن مسعود قال : خرجنا مع رسول اللَّه (صلي الله عليه وسام)  ونحن شباب لا نقدر على شيء . فقال : (( يا معشر الشباب ! عليكم بالباءة ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، فمن لم يستطع منكم الباءة فعليه بالصوم ، فإن الصوم له وجاء )) .
 
جاء في (( تحفة الأحوذي )) ( جـ 4، ص144، 145 ) :
قوله : (( ونحن شباب )) على وزن سحاب جمع شاب ، قال الأزهري : لم يجمع فاعل على فعال غيره (( لا نقدر على شيء )) أي : من المال ، وفي رواية البخاري : لا نجد شيئًا (( يا معشر الشباب )) المعشر جماعة يشملهم وصف وخصهم بالخطاب لأن الغالب وجود قوة الداعي فيهم إلى النكاح (( وعليكم بالباءة )) بالهمزة وتاء التأنيث ممدودًا . قال النووي فيها أربع لغات :
الفصيحة المشهورة البآءة بالمد والهاء .
والثانية : الباءة بلا مد .
والثالثة : الباء بالمد بلا هاء .
والرابعة : الباهة بهائين بلا مد .
وأصلها في اللغة الجماع مشتقة من المباءة وهي المنزل . ومنه مباءة الإبل وهي مواطنها . ثم قيل لعقد النكاح باءة لأن من تزوج امرأة بوأها منزلاً .
قال واختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنى واحد :
أصحهما أن المراد معناه اللغوي وهو الجماع . فتقديره من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه ، وهي مؤن النكاح فليتزوج . ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه الصوم ليدفع شهوته .
والقول الثاني : أن المراد هنا بالباءة مؤن النكاح سميت باسم ما يلازمها .
والذي حمل القائلين بهذا قوله : ومن لم يستطع فعليه بالصوم . قالوا : والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة فوجب تأويل الباءة على المؤن انتهى كلام النووي ملخصًا . (( فإنه )) أي : التزوج (( أغض للبصر )) أي : أخفض وأدفع لعين المتزوج عن الأجنبـية من غض طرفه أي خفضه وكفه (( وأحصن )) أي : أحفظ (( للفرج )) أي : عن الوقوع في الحرام (( فإن الصوم له وجاء )) بكسر الواو وبالمد أي كسر لشهوته ، وهو في الأصل رض الخصيتين ودقهما لتضعف الفحولة . فالمعنى أن الصوم يقطع الشهوة ويدفع شر المني كالوجاء )) . انتهى من (( تحفة الأحوذي )) .
وقال المناوي رحمه اللَّه تعالى : ( لا يقطعها من أصلها وإن ديم عليه ) .
* * *
خاتمــة
قال رسول اللَّه (صلي الله عليه وسام)  : (( إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين ، فليتق اللَّه في النصف الباقي )) . حسن . رواه البـيهقي في (( شعب الإيمان )) عن أنس (( الصحيحة )) ( 625 ) - كذا في (( صحيح الجامع )) .
قال المناوي رحمه اللَّه في (( فيض القدير )) :
( فليتق اللَّه في النصف الآخر : جعل التقوى نصفين : نصفًا تزوجًا ونصفًا غيره ، قال أبو حاتم : المقيم لدين المرء في الأغلب ، فرجه وبطنه ، وقد كفي بالتزوج أحدهما )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كيفية صلاة النبي

كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي فرض الصلاة على عباده وأمرهم بإقامتها وحسن أدائها وعلق النجاح والفلاح بالخشوع ...